رائد السمي
يُعد مفهوما العفو والإفراج من أبرز المفاهيم القانونية التي تعكس البعد الإنساني والعدلي في التشريع الجنائي، لما لهما من أثر في تحقيق التوازن بين هيبة النظام من جهة، ومتطلبات الرحمة والإصلاح من جهة أخرى. فبينما يمثل العفو تنازلًا كليًا أو جزئيًا عن العقوبة بموجب صلاحيات مخولة لولي الأمر، فإن الإفراج هو إجراء يُفضي إلى إنهاء تنفيذ العقوبة المقيدة للحرية ضمن ضوابط نظامية أو إنسانية.
وقد أولى النظام السعودي هذين المفهومين أهمية خاصة، من منطلق دعم مسار العدالة التصالحية، وتحقيق المصلحة العامة، وحفظ السلم المجتمعي، مع الالتزام بضمانات شرعية ونظامية متكاملة.
أولًا: الإفراج – صور وأحكام نظامية
يشكّل الإفراج أحد التطبيقات الإجرائية التي تُجسّد مرونة النظام القضائي، وتمكن المحكوم عليه من مغادرة السجن ضمن إطار قانوني منضبط. وينقسم الإفراج إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
الإفراج النظامي
ويتم عند انتهاء مدة العقوبة المحكوم بها، حيث يُطلق سراح المحكوم عليه فورًا، تنفيذًا لحكم باتّ.
الإفراج المشروط
يُمنح للمحكوم عليه الذي أثبت حسن السلوك خلال قضاء جزء من مدة محكوميته، وفق شروط تضمن انضباطه بعد الإفراج، منها المراقبة المستمرة وعدم الإخلال بالأنظمة.
الإفراج لأسباب صحية
ويُمنح عند ثبوت عذر طبي يمنع استمرار بقاء المحكوم عليه في السجن، شريطة تقديم تقارير طبية رسمية من جهات معتمدة تؤكد وجود خطر على حياته.
وتنص المادة (213) من نظام الإجراءات الجزائية على أن:
“يُفرج عن الموقوف فورًا إذا كان الحكم بعدم الإدانة، أو بعقوبة لا تستوجب الإيقاف، أو إذا كان قد أمضى مدة العقوبة أثناء توقيفه.”
وهو ما ينسجم مع مبدأ العدالة في التنفيذ، ويعكس القاعدة الفقهية:
“الحكم يدور مع علته وجودًا وعدماً“،
حيث يُحتسب التوقيف الاحتياطي ضمن مدة العقوبة، بما يضمن عدم إطالة فترة الاحتجاز دون مبرر.
ثانيًا: العفو – أداة سيادية للإصلاح
يُعد العفو من أبرز الصلاحيات السيادية المخولة لولي الأمر، ويهدف إلى تحقيق مبدأ الإصلاح والرحمة. وينقسم العفو في النظام السعودي إلى نوعين:
العفو العام
يصدر بأمر ملكي، ويشمل فئات محددة من الجرائم أو العقوبات، غالبًا ما تكون بسيطة أو غير جسيمة، وقد يُراعي حالات إنسانية مثل كِبَر السن أو الإعاقة. ولا يشمل عادة الجرائم التي تمس الأمن الوطني، أو تلك المرتبطة بالإرهاب والفساد.
العفو الخاص
يصدر بحق شخص معين، ويُراعى فيه ظروف المحكوم عليه الشخصية، كحسن السيرة، أو الوضع الصحي أو الاجتماعي، وغالبًا ما يصدر بناءً على توصيات من الجهات المختصة.
ويُفرّق النظام بين العفو والإفراج من حيث الأثر القانوني؛ فبينما يُسقط العفو العقوبة (كليًا أو جزئيًا)، فإن الإفراج لا يُلغي الحكم، بل يُوقف تنفيذ العقوبة فقط، مع بقاء آثار الحكم قائمة ما لم تُمحَ بالعفو.
ثالثًا: الأساس الشرعي والإنساني
يستند كل من العفو والإفراج في النظام السعودي إلى مبادئ راسخة في الشريعة الإسلامية، تقوم على التوازن بين العدل والرحمة، ومنها قوله تعالى:
﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ [الشورى: 40] والقاعدة الفقهية: “لا يُكلّف الله نفسًا إلا وُسعها“.
وهذه المبادئ تنسجم مع فلسفة النظام السعودي في تحقيق العدالة التصالحية، وإصلاح الفرد بدلاً من الاقتصار على العقوبة، وهو ما يُجسّده منح العفو في المناسبات الوطنية والدينية.
رابعًا: الأثر الاجتماعي والقانوني للعفو والإفراج
إعادة دمج المحكوم عليه في المجتمع
يشكّل الإفراج والعفو فرصة لإصلاح السلوك والانخراط مجددًا في المجتمع كعنصر فاعل، مما يساهم في خفض معدلات العودة إلى الجريمة، ويقلل من الأعباء الاجتماعية والمالية.
تعزيز القيم الإصلاحية في النظام العدلي
تكرار أوامر العفو في المناسبات يعكس الجانب الإنساني للنظام القضائي، ويعزز ثقة المجتمع في عدالته وتوازنه، ويدعم فكرة أن العقوبة وسيلة إصلاح وليست غاية بحد ذاتها.
مراعاة الأبعاد الإنسانية دون الإخلال بالردع
يُمنح العفو بعد دراسة دقيقة لحالة المحكوم عليه، ما يضمن عدم التهاون مع الجريمة، بل تحقيق الردع بأسلوب متدرج يجمع بين العقوبة والإصلاح. كما أن فعالية هذه السياسات تعتمد على وجود برامج تأهيل ودعم بعد الإفراج، تشمل التدريب المهني والنفسي، وتوفير فرص عمل مناسبة.
خامسًا: العفو والإفراج في سياق العدالة الجنائية الحديثة
لا يُعد العفو أو الإفراج مجرد تخفيف للعقوبة، بل يمثلان أدوات قانونية رفيعة تسهم في بناء نظام عدلي متوازن. وفي ظل التحولات التشريعية التي تشهدها المملكة، فإن تعزيز ثقافة العفو والإفراج المشروط يعكس تطور النظرة إلى العدالة من كونها أداة للزجر فقط إلى كونها أداة للإصلاح المجتمعي.
وتتطلب هذه السياسة التشاركية تعاون الجهات العدلية والأمنية والمجتمع المدني، لضمان تكامل الأدوار في إنجاح إعادة الدمج، وتعزيز فرص المحكوم عليهم في حياة جديدة قائمة على الالتزام والاندماج.
خاتمة
يمثل نظام العفو والإفراج في المملكة العربية السعودية تجسيدًا عمليًا لتوازن دقيق بين مقتضيات العدالة وروح الرحمة، مستندًا إلى أصول شرعية وقيم إنسانية، ويُسهم في تحقيق مقاصد الشريعة في حفظ النفس وإصلاح الفرد واستقرار المجتمع.
ولتحقيق الأثر المرجو من هذه السياسات، لا بد من:
دعم برامج ما بعد الإفراج.
تعزيز التوعية المجتمعية بقيم التسامح والإصلاح.
تطوير آليات المتابعة والتقييم لحالات العفو والإفراج.
وباختصار، فإن العفو والإفراج ليسا نهاية لعقوبة، بل بداية جديدة لمسار إصلاحي يُسهم في بناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية واستقرارًا.